إختر عدداً من الأرشيف  
لبنان

هل اقتنع الجميع بأن أزمة النازحين تهدد الكيان، وأنها أكبر من مجرد دولارات موعودة؟
تقصير الحكومة في ضبط فوضى النزوح تجبر البلديات على تدابير استثنائية
يوماً بعد يوم يتبيّن أن الذين حذّروا، منذ اللحظة الأولى، من انفجار أزمة النازحين السوريين في لبنان، على مداها، كانوا يتمتعون ببُعد النظر. وأما المسؤولون والسياسيون اللبنانيون الذين سكتوا وما زالوا فيمكن وضعهم في إحدى خانتين:
1 - إما أنهم لا يتمتعون ببُعد النظر والرؤية المطلوبة لإدراك المخاطر. وهذا يعني أنهم غير جديرين بتحمّل المسؤولية وتعاطي الشأن العام.
2 - وإما أنهم يدركون المخاطر جيداً لكنهم يفضلون السكوت عنها لمصلحة معينة. وهنا يصبح الأمر كارثياً، لأنه يعني أن هذه الفئة من المسؤولين والسياسيين تتواطأ ضمناً على لبنان وكيانه، وتالياً هي تستحق المحاسبة.
في الأشهر الأخيرة، وفيما كان لبنان يتخبط في البُعد الاجتماعي والإنساني والديموغرافي لأزمة النازحين السوريين والفلسطينيين، برزت المخاوف الأمنية إلى الواجهة. وبلغت الذروة في العمليات الانتحارية التي كانت ضحيتها بلدة القاع اللبنانية الواقعة على الحدود مع سوريا. فقد أظهرت المعلومات أن الانتحاريين الذين قاموا بتنفيذها جاؤوا من سوريا، ولكنهم ربما استعانوا ببيئة النازحين في لبنان للتمويه. وأعقبت ذلك معلومات عن حراك تقوم به عناصر داعش لتنفيذ عمليات إرهابية مختلفة في لبنان، وقد جرى إحباط بعضها.
ليس للنازح السوري أي ذنب في موجة الإرهاب التي تهدد لبنان كما العديد من دول العالم، بل هو اساساً ضحية للإرهاب، لكن الفوضى التي تعيشها بيئات النازحين في لبنان يمكن للإرهابيين خرقها واستثمارها في مخططاتهم. وهذا ما تخشاه الأجهزة الأمنية. ولذلك، هي تولي هذه البيئات اهتماماً استثنائياً.

وخطر الإرهاب الداهم من البوابة السورية يشكل عبئاً كبيراً على لبنان وأجهزته الأمنية في ظروف داخلية صعبة أساساً، ما يزيد من أعباء هذا الملف على لبنان. والقوى الدولية التي تهتم بلبنان تكتفي بتزويده دعماً لوجستياً ومعلوماتياً يساعده على مواجهة الإرهابيين، لكنها في المقابل تتعاطى بكثير من الإهمال، ووفقاً لمصالحها الخاصة مع ملف النازحين في لبنان. وهذا التناقض يجعل مهمة لبنان في مواجهة الملفين: النازحين والإرهاب، أكثر صعوبة.
ومع تزايد الضربات الإرهابية في عواصم أوروبية، ارتفعت حدّة الهواجس في أوروبا عموماً إزاء كل الوافدين من سوريا. واضطلع الأتراك بدور في استثمار المخاوف الأوروبية لتحقيق مكاسب. وهذا الدور لم ينجح فيه لبنان. وعلى العكس، يبدو مثيراً أن يدفع الأوروبيون بموفديهم ليطالبوا السلطات اللبنانية بممارسة جهود لمنع تدفق النازحين من لبنان بحراً إلى أوروبا، ثم يعمد المجتمع الدولي إلى مطالبة لبنان بتسهيل إقامة النازحين وعملهم على أرضه من دون أي أفق، علماً أن نسبة النازحين في لبنان تجاوزت ال ٥٠% من سكانه، بينما هي لا تبلغ ال ١% في الدول الأوروبية التي تشكو من النازحين!
ليس هناك أي بلد عربي أو أوروبي يقبل بأن تصل نسبة النازحين على أرضه إلى المستوى الذي بلغه لبنان، علماً أنه يعاني وضعاً حسّاساً في تركيبته الديموغرافية، وفي واقعه الأمني والاجتماعي. فهل المطلوب أن تجري التضحية باستقرار لبنان أو التضحية بالكيان اللبناني بأسره من أجل إراحة الآخرين أو تنفيذاً للمخططات الكبرى؟
الواضح أن حال الإهمال والإرباك التي يتعاطى بها المعنيون مع ملف النازحين ومستتبعاته الاجتماعية والأمنية بدأ يدفع الكثير من هيئات المجتمع والإدارات المحلية إلى اتخاذ تدابيره الخاصة في مواجهة ملف النازحين، سواء لجهة تنظيم الإقامة أو العمل أو المراقبة الأمنية بالتنسيق مع الأجهزة الرسمية.
لقد وجدت البلديات، كل ضمن نطاق مهامها، أنها مضطرة إلى حماية الناس والنازحين على حدّ سواء من أي خرق أمني، فقامت بأداء الدور المناط بها وتحمّل الأعباء، في غياب سياسة وطنية جامعة وواضحة. لكن ذلك لم يمنع من بروز انتقادات ربما يكون بعضها في محله، وربما يكون جزءاً من عملية استغلال سياسي.
وقبل أيام، وقعت بلبلة في بلدة عمشيت الساحلية اللبنانية خلال عملية دهم لمراكز النازحين نفذتها شرطة البلدية. وجرى اتهام البلدية بممارسة سلطة تفوق تلك المعطاة لها في القانون.
وهنا يبرز الخيط الرفيع الذي يفصل بين اعتبارين:
- اعتبار المصلحة الوطنية لجهة ضرورة قيام البلديات بحماية الناس، في ظل الفوضى الحاصلة في ملف النازحين.
- الاعتبار القانوني الذي يضع ضوابط لعمل السلطات المحلية.
أياً يكن الوضع، فالواضح أن الناس يريدون أن تكون هناك جهة ضامنة لتنظيم وجود النازحين ومراقبتهم أمنياً. وعندما تتلكأ السلطة المركزية عن أداء هذا الدور، يصبح طبيعياً أن تقوم بذلك السلطات المحلية المنتخبة، وتحت سقف القانون.
والواضح أن أحداً في لبنان لا يتصرف عنصرياً مع السوريين. فمنذ عشرات السنين، يستعين اللبنانيون بمئات الألوف من السوريين الذين يعملون في قطاعي البناء والزراعة خصوصاً. كما أن هناك ترابطاً اجتماعياً وعائلياً وثيقاً بين الشعبين. لكن ما يجري في ملف النازحين يستدعي التفكير بجدية، لمصلحة اللبنانيين والسوريين على السواء. والمهم هو أن يتوقف بعض اللبنانيين عن استثمار الملف سياسياً، بحيث يتم رمي الاتهامات بالعنصرية زوراً، وبهدف المتاجرة السياسية الداخلية لا أكثر!

ضغوط دولية للتطبيع
وكان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أعلن في التقرير الذي أعدّه ليرفعه إلى المؤتمر المخصص لملف اللاجئين في أيلول/سبتمبر المقبل، وفي شكل مباشر، أن على المجتمعات المضيفة أن تسهل توطين اللاجئين. وأورد التقرير في البند 86 منه: في الحالات التي لا تكون فيها الظروف مؤاتية لعودة اللاجئين، يحتاج اللاجئون في الدول المستقبلة الى التمتع بوضع يسمح لهم بإعادة بناء حياتهم والتخطيط لمستقبلهم. وينبغي أن تمنح الدول المستقبلة للاجئين وضعاً قانونياً، وأن تدرس أين ومتى وكيف تتيح لهم الفرصة ليصبحوا مواطنين بالتجنّس!.
وأرفق بان كي مون تقريره بمقال إيضاحي نشره على الموقع الرسمي للمنظمة الدولية ويختمه بالعبارة الآتية: علينا أن نتقبل الفرص التي يتيحُها اللاجئون والمهاجرون لمجتمعاتهم الجديدة. وعبارة مجتمعاتهم الجديدة واضحة ففي مغزاها! وفي زيارته الأخيرة لبيروت، جاء الأمين العام ومعه رئيس البنك الدولي لإغراء لبنان بمساعدات مشروطة بتسهيل توطين السوريين والفلسطينيين على أرضه.
وسبق الزيارة قيام الأونروا بوقف مساعداتها للفلسطينيين، وسط كلام على إنهاء دورها وضمّ ملف النازحين الفلسطينيين إلى المفوضية العليا للاجئين، ما يعني في المعنى القانوني إنهاء خصوصية اللجوء الفلسطيني والحقّ في العودة.
ويومذاك حاول بان كي مون إقناع المسؤولين اللبنانيين بتسهيل إقامة النازحين الفلسطينيين والسوريين وعملهم ومنحهم أوراقاً ثبوتية، إلى أن يتمكنوا من العودة إلى بلادهم، عندما يصبحون قادرين على ذلك، أي عندما تتوقف الحرب ويشعرون بأنهم سيكونون هناك في أمان، وعندما يعاد بناء منازلهم.

اتفاقية جنيف هي الهدف
ويسعى المجتمع الدولي إلى دفع لبنان ليوقِّع على إتفاقية جنيف للاجئين 1951، كما حصل في مؤتمر برلين للاجئين، خريف 2014. ويكشف معنيون بالملف أن الضغوط ستزداد على لبنان لإرغامه، في النهاية، على الرضوخ لهذه الاتفاقية التي تُلزِم الموقِّعين عليها، والتي ترعى أوضاع اللاجئين في الدول المضيفة، بدءاً بضمان حقوقهم في السكن والعمل وانتهاء بمنحهم وثائق السفر والجنسية.
ووفقاً للإتفاقية، تحتفظ المفوضية العليا للاجئين ب التزام رقابي على الدولة المضيفة في مجال اللجوء. فهي تتدخّل حسب الاقتضاء لمنح اللاجئين صفة اللجوء وعدم إرغامهم على العودة إلى بلدان يخشى أن تتعرض فيها حياتهم أو حرياتهم للخطر. وتعترف المفوضية في شرحها للإتفاقية: قد تنشأ حالات يندمج فيها اللاجئون بصورة دائمة فى بلد لجوئهم.
وتنصّ إتفاقية جنيف على الحقّ في السكن وحماية الملكية الصناعية والانتساب إلى النقابات والجمعيات غير السياسية التي لا تبغي الربح المادي، وتتيح للاجئين ممارسة العمل المأجور بالمساواة في الحقوق مع مواطني الدولة، والعمل لحسابهم الخاص في الزراعة والصناعة والحرف اليدوية والتجارة، وكذلك في إنشاء شركات تجارية وصناعية.
كما تمنح اللاجئين الحق في اختيار محل إقامتهم والتنقل الحرّ ضمن أراضي الدولة وإصدار بطاقة هوية شخصية لكل لاجئ لا يملك وثيقة سفر صالحة، وإصدار وثائق سفر لتمكين اللاجئين من الانتقال إلى الخارج. وتمتنع الدول المتعاقدة عن تحميل اللاجئين أية أعباء أو رسوم أو ضرائب باستثناء الرسوم المتصلة بإصدار الوثائق الإدارية، بما فيها بطاقات الهوية. ولا يجوز للدولة أن تطرد لاجئاً أو تردّه بأية صورة من الصور إلى حدود الأقاليم التي تكون حياته أو حريته مهددتين فيها بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة أو بسبب آرائه السياسية.
وتنص الاتفاقية على أن تبذل الدولة كل ما في وسعها لتعجيل إجراءات التجنّس وخفض أعباء هذه الإجراءات إلى أدنى حدّ ممكن. ويُمنح اللاجئون المعاملة الممنوحة للمواطنين في الأجر والإعانات العائلية والضمان الاجتماعي.

السيطرة على سوق العمل
إن رضوخ لبنان للاتفاقية يعني انهياره ككيان. فلا يمكن لبلد عدد سكانه 4 ملايين نسمة أن يستقبل مليوني نازح سوري وفلسطيني يتم تجنيسهم تدريجاً، علماً أن هؤلاء النازحين يسيطرون اليوم على سوق العمل في لبنان حيث تَصرف مؤسسات عمالها اللبنانيين لتشغيل سوريين برواتب أدنى، ما يؤدي إلى ارتفاع بطالة اللبنانيين من ١١% إلى ٢٥% منذ أن بدأت الحرب في سوريا، فيما تهاجر نخبة شباب لبنان بحثاً عن عمل. فالسوريون الموجودون في لبنان، تحت عناوين النازحين في معظم الأحيان، يضاربون بخدماتهم الزهيدة الأسعار على العمال اللبنانيين وذوي المهارات. وامتدّت اليد العاملة السورية لتشمل قطاعات الهندسة وإدارة الأعمال والطبّ. وقد ارتفع عدد المهاجرين اللبنانيين إلى حوالى 346 الفاً وفق أرقام وزارة العمل. وأصبحت نسبة البطالة بين الشباب في حدود ٣٦%، وارتفع عدد اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الى أكثر من مليون و170 الف نسمة.
وصحيح أن العمالة السورية في لبنان تاريخية، وهي ساهمت على مدى عشرات السنين، في تحريك الاقتصاد اللبناني، ولا سيما في مجال التطوير العقاري، لكن ما هو صحيح أيضاً هو أن هذه العمالة بدأت تدكّ مقومات الاقتصاد اللبناني يوماً بعد يوم، بسبب منافستها الشرسة لليد العاملة اللبنانية.

ليست مسألة دولارات!
وفي اسطنبول، رفع رئيس الحكومة تمام سلام الصوت طالباً دعم المجتمع الدولي لتحصين لبنان في وجه أزمة النزوح، كما رفع الصوت في مؤتمرات سابقة. ولكن المسألة محصورة بين خيارين: هل يتلقّى لبنان حفنة من الدولارات أم لا؟ وفي أيلول/سبتمبر أيضاً، ستتكرر المعزوفة إياها، وستتكرر دائماً في مؤتمرات أخرى لاحقة.
لكن أزمة الدعم المالي تبدو جزءاً هامشياً، بل تافهاً، ولا تعالج شيئاً في جوهر أزمة النزوح، لأن المأزق الحقيقي هو في ما تكتسيه هذه الأزمة من مخاطر كيانية على لبنان، وليس فقط في إمكانات التمويل.
قد تحلّ المساعدات المالية بعض أزمات المسؤولين الذين يُحال إليهم أمر الصرف والتوزيع على النازحين، لكنه بالتأكيد لا يقدّم حلولاً لمعضلة ذات طبيعة كيانية.

هل سيقاوم لبنان؟
يريد بان كي مون من لبنان أن يتبرع بالجنسية للنازحين. فلماذا لا يتبرع لهم بالجنسية الكورية؟
ليس هذا الرجل سوى موظف دولي برتبة باش كاتب، يكتب التقارير التي تقرِّرها القوى الكبرى. وتقريرُه عن اللاجئين جزء من ملامح الشرق الأوسط الذي تطمح إسرائيل إلى استيلاده.
فهل سيقاوم لبنان هذا المخطط الواضح أو هو سيسقط تحته؟
الخوف هو أن تقوم القوى الدولية بالضغط على لبنان إلى حدّ قطع الهواء عنه لإجباره على الرضوخ. وعندئذٍ، لا أحد يستطيع التكهن بما سيجري إلا أصحاب المخطط المرسوم.


ط. ع
    قرأ هذا المقال   2340 مرة
غلاف هذا العدد