إختر عدداً من الأرشيف  
لبنان

سلام العائد من مؤتمري النازحين في نيويورك... لا شيء معي إلا كلمات!
رئيس الحكومة يصرخ في القاعة: لبنان معرَّض للانهيار... والحضور يبدي أسفاً مصطنعاً
هل المخاوف في مكانها؟ هل مكتوب أن يسلك النزوح السوري إلى لبنان مساراً سلكه النزوح الفلسطيني؟ بعض اللبنانيين يصرُّ على أن لا شيء يوحي بالخطر، ويعتقد أن العنصرية هي التي تقود إلى التخويف. ولكن، وإن تكن العنصرية أمراً مَقيتاً ومرفوضاً، لماذا يصمت اللاعنصريون عندما تُطرَح عليهم الأسئلة المصيرية في ملف النازحين؟
انتهى مؤتمرا نيويورك للاجئين بفشل ذريع كان متوقعاً. هناك، صرخ الرئيس تمام سلام باسم لبنان: نحن بلد معرَّض للانهيار. فتبادل الحضور في القاعة نظرات الأسف والاستغراب، وكأنهم اكتشفوا البارود. فهل كان أحد منهم تنقصه المعلومات عن أن لبنان سينهار تحت ثقّالة النازحين؟
بعض العائدين من نيويورك يصفون ما جرى فيها ب الكرنفال الذي ارتدى فيه الكثيرون أقنعة. فحذار أن ينسى اللبنانيون دروس الماضي الأليم، وأن يُضيعوا البوصلة!
بعض قادة الذين أبدوا التعاطف مع سلام، بعد إلقائه كلمته، من أوروبيين وشرق أوسطيين، هم أنفسهم الذين ينظمون الزيارات لبيروت حيث يقومون بالضغط المتواصل على حكومتها ومسؤوليها منذ سنوات كي توافق على استيعاب النازحين. وهم أنفسهم الذين يعمدون إلى ابتزاز لبنان بالمساعدات المشروطة بتطبيع إقامة النازحين وعملهم ومنحهم التأشيرات.
ولطالما رفض المسؤولون اللبنانيون هذه المطالب وحاولوا أن يشرحوا لموفدي الدول المعنية حقيقة المأزق الذي سيقع فيه لبنان إذا تجاوب مع مطالبهم، وأبلغوهم أن هذا البلد معرّض للانهيار بسبب النازحين. لكن هذه القوى الدولية والإقليمية لم ترحم لبنان، وهي تزيد الضغط عليه ليستوعب مزيداً من النازحين ويطبّع إقامتهم وعملهم ويقوم بتوطينهم. إذاً، مَن يصدِّق مهزلة التظاهر بالتعاطف مع لبنان التي أدَّتها هذه القوى من على منابر الأمم المتحدة؟

في اعتقاد بعض العائدين إلى بيروت من مؤتمر نيويورك أن هاجس الاجتماعات والمؤتمرات هناك لم يكن إنقاذ اللاجئين ودعم الدول المضيفة، بل إنقاذ الدول الغربية من مأزق اللاجئين بتثبيتهم في دول الجوار السوري، بحيث تكون هذه الدول، ولبنان في الطليعة، حاجزاً واقياً لمنع انتقالهم إلى أوروبا، خصوصاً بعد تنامي موجة العداء ضدهم هناك، وبدء الخطط الواضحة والخفية في العديد من الدول الأوروبية لإخراجهم منها.
والدليل إلى ذلك أن الأوروبيين أنهوا، بالتزامن مع مؤتمري نيويورك للاجئين، قمتهم السنوية في براتسلافا عاصمة سلوفاكيا، وخلصوا إلى توصيات تتعاطى مع اللاجئين في بلدانهم بوصفهم مهاجرين، شرعيين أو غير شرعيين. وهذا التوجه يناقض قمة العام الفائت التي فتحت الذراعين لاستقبال اللاجئين بلا تحفظات. وفي مقابل استعداد أنجيلا ميركل لاستقبال مليون لاجئ سوري تستثمرهم في تجديد شباب المجتمع الهرِم وإيجاد يدٍ عاملةٍ رخيصة، تطغى اليوم توجهات معاكسة.
ولذلك، سيتم إهمال الكلام الذي أورده الرئيس سلام في نيويورك، وكأنه لم يكن. والمنطق الذي تستمر الدول المانحة في اعتماده لن يتغيّر، ولن يُمنَحَ لبنان أي دعمٍ دولي يحتاج إليه، ما دام يرفض التبرّع بأن يكون كبش محرقة في معضلة النزوح السوري.

هواجس التجربة
قبل ذلك، استضاف لبنان مئات الآلاف من الفلسطينيين بعد نكبتي 1948 و1967. وإذ كانت المبررات الإنسانية والقومية هي الأساس، فإن النزوح الفلسطيني تحوَّل تدريجاً إلى حالة أمنية - عسكرية - سياسية - اجتماعية معقّدة، يرعاها اتفاق القاهرة.
وفي مطلع سبعينات القرن الماضي، بدأت هذه الحالة تصطدم بالجيش اللبناني وزعزعت استقرار لبنان. وفي 1975، اصطدمت بالشعب اللبناني وتسببت باندلاع الحرب الأهلية. وما زال لبنان يعاني مأزق الجزر الأمنية الفلسطينية: اليوم عين الحلوة، وقبل سنوات قليلة نهر البارد. وباتت المخيمات أيضاً عبئاً على السلطة الفلسطينية التي تواجه تحدّي السيطرة على عين الحلوة.
البعض في لبنان يقول، عن حسن النيّة أو عن سوئها، إن ظروف النزوح الفلسطيني من أرض محتلة تختلف عن ظروف النزوح السوري من وطن ما زال موجوداً، ولذلك، لا خوف أن تتكرّر مع النازحين السوريين تجربة النزوح الفلسطيني. لكن الوقائع والمعطيات تُظهِر خطأ هذا التحليل:
1 - ليس هناك أفق لعودة السوريين إلى بلادهم، لأن لا أفق للحرب فيها، فهي قد تستمر سنوات أخرى. والجميع يذكر أن هناك لبنانيين تهجّروا من قراهم، داخل وطنهم، قبل 33 عاماً أو 40 أو أكثر، وكانوا يعتقدون أنهم سيعودون بعد ساعات أو أيام، لكنهم لم يعودوا حتى اليوم، لأنهم رسّخوا أقدامهم في مناطق النزوح وباتت تربطهم بها المصالح. وكل الهجرات التاريخية كانت حاسمة في تحقيق المتغيرات الديموغرافية.
في هذا المعنى، يصبح خطر النزوح السوري موازياً لخطر النزوح الفلسطيني على لبنان، خصوصاً إذا تقاطعت مصالح قوى إقليمية ودولية على استخدام النازحين لإحداث التبدلات في سوريا، واللعب بالتوازنات الديموغرافية.
2 - هناك تَداخُلٌ اجتماعي واضح بين النازحين الفلسطينيين والسوريين في المخيمات، كما في عين الحلوة، خصوصاً مع نزوح الفلسطينيين من مخيم اليرموك خلال الحرب السورية، كما هناك تداخل أمني - سياسي. فتركيبات بعض الجماعات، ك داعش ورديفاتها، عابرة للجنسيات السورية والعراقية والفلسطينية وغيرها.
3 - قد تستثمر قوى إقليمية ورقة النزوح الفلسطيني والسوري معاً في صراعها الإقليمي.
4 - ستعمد إسرائيل إلى تكريس تذويب الهوية الوطنية الفلسطينية بدمج مصائر النازحين الفلسطينيين والسوريين. وهناك سيناريوهات متداولة في هذا السياق.
5 - سيكون عامل النزوح أساسياً في إحداث المتغيرات الديموغرافية في دول الربيع العربي، ويستحيل أن يكون لبنان في منأى عن التحوّلات الآتية.

اشتباكات عرمون
المشهد الحقيقي، كما يبدو من فوق، خلال مؤتمري نيويورك للاجئين، كان الآتي: الكرنفال الخطابي كان ماشياً هناك، فيما كانت تدور أحداث كرنفال آخر أكثر واقعية هنا، في دوحة عرمون، بعد صربا - جونية. فالنازحون السوريون قدّموا في عرمون النماذج الأولى من أحداث ستأتي، كما سبق للنازحين الفلسطينيين أن فعلوا قبلهم بعشرات السنين، إلى أن استقلوا اليوم بالجزر الأمنية المدججة بالسلاح والمالكة قرارها العسكري والأمني والسياسي.
ولم تكن الإشتباكات التي دارت في دوحة عرمون وليدة اللحظة، بل نتيجة تراكمات بدأت قبل نحو أسبوع، أربكت الأجواء وشحنت النفوس. وبدأت قصة القلوب المليانة، بإشكال في محلّ إنترنت، حيث قام شاب سوري بضرب طفل سوري آخر كان يلعب، فما كان من صاحب المحل، وهو من عرب المسلخ، إلا أن وبّخ الشاب وطرده، حتى تطور الاشكال بينهما.
وما لبث أن مضى يوم واحد على تلك الحادثة، حتى وقع الإشكال الثاني في محل للعاب البليار بين شابين سوريين أيضاً، حيث أقدم أحدهما على طعن الآخر بسكين ما أدى الى إصابته إصابة بالغة. وأشارت المصادر الى أن عائلة المصاب قريبة من سرايا المقاومة المحسوبة على حزب الله، فيما الجاني وعائلته قريبون من الجماعات المتشددة في المنطقة، ولهذا السبب حاولت عائلة الجاني التواصل مع مقربين من السرايا للضغط على طريق حلّ الاشكال حبياً. لكن أهل المصاب لم يتجاوبوا، وبقيت النفوس مشحونة.
وقبل أسبوع، دارت اشتباكات مسلحة بالرشاشات والقنابل بين مدنيين، وفي احياء سكنية، دامت أربع ساعات قبل أن يتدخل الجيش اللبناني ويطوّق المنطقة، لإنهاء تلك الاشتباكات التي أشعلتها خلافات حول اشتراكات خطوط موّلدات الكهرباء. اما عن السوريين وعلاقتهم بالموضوع، فتكمن في أن كلاً الطرفين يقف في صفه جماعة من السوريين المتواجدين هناك. وهم انقسموا بدورهم وانخرطوا في الإشكال. فجرت المواجهة كالآتي: جماعة أبو عطا وشاكر البرجاوي المحسوبون على سرايا المقاومة، ومعهم بعض السوريين، في مواجهة عرب المسلخ وبعض الجماعات المتشدّدة ومعهم أيضاً بعض السوريين. وثمة خلفيات سياسية وحزبية رفعت من حدة التوتر، لا سيما بعد انزعاج عرب المسلخ من تسلّم قيادي جديد في السرايا مهامه في المنطقة.
وهذه الاشتباكات أسفرت عن أربعة جرحى احدهم في حال خطرة جداً، وسلسلة اعتقالات نفذها الجيش اللبناني بعد دخوله الشارع. والأربعة ينتمون إلى واحدة من كبريات عائلات عرب المسلخ، ما زرع التوتر ورشّح الأمور للتفاقم.

الاشتباك قائم
ومن علامات الخطر في ملف النزوح السوري أن الاشتباك اللبناني - السوري قائم. فملفات المواجهة في عرسال والقاع ومخطوفي الجيش والقوى الأمنية هي ملفات لبنانية - سورية في شكل من الأشكال، وكذلك هي الحرب التي يخوضها حزب الله في الداخل السوري. وهذه العلامات قد تتكفَّل بإشعال فتنة لبنانية - سورية على أرض لبنان، يكون النازحون أدوات فيها وضحايا.
وتحذّر مرجعيات خبيرة بالأمن من مواجهة سورية - سورية في لبنان، بين النازحين الموالين للرئيس بشّار الأسد والمعارضين له، يتورّط فيها لبنانيون في مقلب الموالاة والمعارضة، فيتحوّل الاشتباك لبنانياً - سورياً شاملاً وقد يتخذ طابعاً مذهبياً. واشتباك عرمون المسلّح جرت فيه مواجهة بين سوريين ولبنانيين هنا في مقابل سوريين ولبنانيين هناك.

زمن الاعترافات
إذاً، الاستحقاق يقترب وسط عجز رسمي لبناني يذكّر بالعجز في ملف النازحين الفلسطينيين. وبعيداً عن الكلام الملتبس - على الطريقة اللبنانية - والمزايدات السخيفة، إن الأكثر اندفاعاً إلى التحذير من المخاطر الكيانية للنزوح هم المسيحيون. وهؤلاء يتعرّضون للاتهام بالعنصرية، كما تعرّضوا قبل نصف قرن للتهمة إياها عندما خاضوا المواجهة مع تجاوزات النزوح الفلسطيني.
لكن بعض الأصوات تعترف اليوم بخطأ المراهنة على الفلسطينيين في اللعبة اللبنانية الداخلية، كما تعترف فئات أخرى بخطأ المراهنة يوماً على إسرائيل. وقد يأتي اليوم الذي يُسمَع فيه صوت فئة تعترف بخطأ المراهنة على إيران. لكن هذه الاعترافات تأتي دوماً متأخرة، وبعد دفع الأثمان الباهظة.

الحريات المدنية
وقبل أيام، قام وفد من البرلمان الأوروبي، من لجنة الحريات المدنية، بزيارة استطلاعية للبنان هدفها مراقبة أوضاع اللاجئين السوريين. وأكدت مصادر أوروبية أن الزيارة تندرج في إطار تطوير قانون اللجوء السياسي، بما يسمح للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي باستقبال أعداد أكبر من النازحين السوريين، وذلك على الرغم من الحديث الدائر داخل البرلمان حول ضرورة تحديث القانون الذي ينص على منح اللجوء السياسي لمن يستحقه فقط. والقانون أقرّ في العام 1999 في ضوء ازدياد أعداد اللاجئين.
لكن المصادر نفسها تعتقد أن هذه المهمة صعبة جداً في ظل تصاعد التيارات المتطرفة في أوروبا. وكشفت من جهة أخرى، أنه خلال سنة 2015 تقدم إلى الاتحاد الأوروبي نحو ١.٢٦ مليون طلب لجوء سياسي منها ٢٩% لسوريين وأن الملف يشكل مادة للسجال داخل أروقة الاتحاد الأوروبي.
وأكّد رئيس لجنة الحريات العامة والعدالة والشؤون الداخلية في البرلمان الأوروبي كلود مورايس، وهو أحد أعضاء الوفد، أن سياسة منح اللجوء للنازحين يجب أن تكون ذات مصداقية، لذلك لا يجب الاكتفاء بالتعاطف والمشاعر بل تنظيم هذه السياسة ووضعها في أطر تلائم الدول الأوروبية.
وإذ نفى مورايس نية الاتحاد الأوروبي استيعاب ١٠% من النازحين السوريين في لبنان، شدد على ضرورة الاتفاق على سياسة واقعية لاستيعاب اللاجئين في الدول الأوروبية.
وحول إمكان عودة النازحين إلى مناطق يمكن العيش فيها داخل سوريا، ذكّر بأن أوروبا تمتلك تجربة مريرة في هذا السياق خلال الحرب في يوغوسلافيا سابقاً، ولا يمكن إقناع أحد بوجود مناطق آمنة في سوريا، وقد أثار الوزير رشيد درباس هذا الموضوع مع الوفد، لكن ليس بإمكان الاتحاد الأوروبي مجاراة لبنان في هذا الاقتراح العودة، لأن الاتحاد غير مقتنع بمصداقية المناطق الآمنة التي يمكن العيش فيها داخل سوريا.
وعن المشكلات الأمنية التي تتزايد بين النازحين السوريين واللبنانيين، أشار مورايس إلى أن ذلك ليس من مهمة الوفد، مكرراً أن الزيارة استطلاعية وأنها سمحت لأعضاء الوفد بتفهم أوضاع لبنان، كما أنها كانت مفيدة لأخذ انطباعات واقعية ودقيقة عن النازحين.
وقال مورايس إن أعضاء الوفد تكلموا مع نازحين سوريين وسمعوا منهم رغبتهم في الاستقرار في بلدان أخرى، لكن بشكل منظّم، إذ أنهم تعبوا من العيش بطريقة موقتة. وأعلن أن الوفد لمس خلال زيارته مقر المفوضية العليا للاجئين حيث التقى لاجئين ينتظرون تأشيرة اللجوء السياسي، ومكاتب الأونروا في مخيم شاتيلا حيث يقيم لاجئون فلسطينيون وسوريون، من الجميع الإرادة بتسوية أوضاعهم بطريقة لائقة ورغبتهم في الاستقرار.
لكن المصادر الديبلوماسية نفسها شددت في المقابل، على أن الاتحاد الأوروبي لا يستطيع أن يساعد النازحين بشكل كبير في ظل الأجواء المشحونة بالتطرّف داخل البلدان الأوروبية، وقالت إن التحدي الكبير هو اقتناع أعضاء البرلمان الأوروبي بتطوير قانون اللجوء السياسي على أساس استيعاب عدد اكبر من النازحين في ظل تنامي نفوذ تيارات شعبوية متطرفة في عدد من الدول الأوروبية رافضة استقبال المزيد من النازحين.

لبنان متروك
سيقود فشل لبنان الرسمي في نيويورك إلى تأكيد الاقتناع بأن أحداً في العالم ليس مستعدّاً لمساعدة لبنان في ملفات النزوح، وأن كل طرف إقليمي ودولي يبحث عن إنقاذ رأسه أولاً، ولو على حساب لبنان.
وهذا ما يجعل اللبنانيين أمام تحدّي الاتفاق على موقف واحد، واضح وصادق، في ملف النزوح السوري والفلسطيني، لئلا تنجح المخططات الآيلة إلى جعل لعبة النزوح والنازحين جزءاً من مشهد الكيانات المنهارة في الشرق الوسط، ومنها لبنان. فهل يتحقّق اتفاق اللبنانيين قبل فوات الأوان؟
    قرأ هذا المقال   1350 مرة
غلاف هذا العدد