إختر عدداً من الأرشيف  
لبنان

المصريون شعب طيب ومنفتح ويصرّ على عيشه المشترك

الأب البروفسور يوسف مونس ل الصياد: مصر بعد زيارة البابا شيء آخر
أهالي الضحايا يواجهون البغض بالمحبة... وهناك قراءة جديدة للعقل الديني
تزامنت زيارة الأب البروفسور يوسف مونس الأخيرة مع زيارة البابا فرنسيس التاريخية لمصر، وما رافقها من لقاءات مع الرئيس عبد الفتاح السيسي وشيخ الأزهر الشريف ورؤساء الكنائس المصرية. ورصد الأب مونس اجواء تلك الزيارة، بموازاة لقاءاته العديدة مع أهالي ضحايا التفجيرات التي طالت كنائس قبطية في عيد الفصح المجيد، ليعود الى لبنان بانطباع مفاده ان مصر بعد زيارة البابا هي شيء آخر.
وقد تحدث الأب مونس الى الصياد حول اصداء هذه الزيارة، وعن المحبة والغفران اللذان يسكنان قلوب أهالي ضحايا تفجيرات الكنائس.



بدايةً، ماذا كان هدف زيارتك لمصر؟
- هدفت زيارتي الأخيرة لمصر الى متابعة وقائع زيارة الحبر الأعظم البابا فرنسيس، واعداد تقارير صحافية لصالح تلفزيون تيلي لوميير عن التفجيرات التي طالت الكنيسة البطرسية في القاهرة، وكنيستي الاسكندرية وطنطا. وسمحت لي هذه الزيارة بلقاء عدد كبير من المسؤولين عن الكنيسة القبطية ورعيتها، كما مسؤولي الكنيسة الكاثوليكية، ومعاينة آثار التفجيرات في الكنائس وفي نفوس البشر، لأفاجأ بأن التفجيرات زادت من ايمان المواطنين، وتعلقهم بوطنهم مصر، ارض الحضارات والتلاقي. فمن بين الذين التقيتهم خادم كنيسة طنطا، الكاهن الذي توفي ابنه بين يديه، وقد لطخت دماؤه جبّته الكهنوتية.
وقابلت كاهن الكنيسة البطرسية في القاهرة وطفلته، ابنة الثامنة، التي خرقت شظية جسدها، وعاشت الموت للحظات، لتعود لعائلتها تنبض بالحياة. والتقيت نهلا، الأم التي قدمت ابنتيها بعمر ال ١٨ و٢١ عاماً، عروستان للسيد يسوع المسيح.
كانت لقاءات مؤثرة، مفعمة بالإيمان، بدا المصابون بهول التفجيرات، التي طالت الكنائس، وكأنهم في عرس مقدس. يعتبر الأهالي ما أصابهم في عيد الفصح المجيد كما لو أنهم قدموا أولادهم قرباناً، وأن اولادهم اليوم انتقلوا للعرس السماوي.
لا نقمة ولا غضب ولا تشفّي، بل دعوات للحب والرحمة والسلام، وتعالي على كل الجراح. مشهد وكلام أكثر من رائع وأكثر من مؤثر، تردد على مسمعي في كل تلك اللقاءات، عدا عما شاهدته من صور الضحايا المعلقة على الجدران، وكأنها قرابين داخل الكنيسة، فيما لا تزال الدماء كما الشظايا مطبوعة بالحجارة. اما الكاتدرائية التي انهار سقفها وتكسّرت نوافذها، فقد اعيد بناؤها في أقل من ثلاثة اسابيع، بمبادرة رائعة من المهندسين والجيش المصري، وقرار حكيم من الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ما يعني أن هناك تضامناً مصرياً مع الأقباط لتعزيز العيش المشترك؟
- لنقل ان بادرة المحبة والمغفرة التي صدرت عن الأقباط برئاسة رأس كنيستها البابا تواضروس تردد صداها مع زيارة البابا فرنسيس، وأكدت ان مصر هي أرض الحضارة والتلاقي، وأرض العيش المشترك، وعلى أن مصر هي أم الدنيا التي في زمن الجوع أطعمت العالم الخبز والقمح، وعليها اليوم إطعام البشرية خبز المحبة والرحمة والغفران، كما قال البابا فرنسيس. كلامه هذا مهم جداً، لأن مصر التي استقبلت مريم العذراء ويوسف في المعادي، تستقبل اليوم كل الناس على أرضها ارض الترحاب والمحبة. نعم، نشعر بأن التضامن قوي جداً من جانب اخواننا المسلمين تجاه اخوانهم المسيحيين ومع سائر الكنائس، خصوصاً وأن البابا تواضروس شخصية مسيحية رائعة. وقد ترجمت كل تلك الأمور، وذلك التلاحم بين الشعب المصري خلال استقبال الرئيس المصري للحبر الاعظم، وتلك الحفاوة البالغة التي تجلت برفع صوره في المطار وصولا الى كل القاهرة، ما يترجم هذا التعاطف مع المسيحيين حاملي رسالة المحبة والعيش المشترك.

الخطاب: جميعنا مصريون
كيف يمكن ترجمة كلام البابا في محطته المصرية على ان الدين لله والوطن للجميع؟
- مما لا شك فيه ان مصر تعتبر بلد التسعين مليون مسلم، الا ان الجميع ومن كل الطوائف يصرون على اعتبار انفسهم مصريين، وهذا يؤكد ان لا مجال للتفرقة ابدا. ان الخطاب واحد ومحصور بكلمة جميعنا مصريون اكان لدى القيادات السياسية او الرئيس السيسي او في خطاب الازهر الشريف وحتى في خطاب الكنيستين القبطية والكاثوليكية، جميعهم صوت واحد كلنا مصر. اما بالنسبة لزيارة البابا فرنسيس وما رافقها من مواقف له، فما يمكن قوله انه، بما قام به من تقبيله لشيخ الازهر والبابا تواضروس، كسر جدارا رهيبا، واسقط البغضاء والظنون والشكوك. كما وان الصلاة المسكونية التي رفعها البابا فرنسيس مع البابا تواضروس كانت مفصلا تاريخيا... كل تلك اللقاءات حطمت الجدار، لصالح ارساء خطاب معتدل، وتغيير في العقلية، وهذا كان المطلب الاساسي، اي عدم الابقاء على الخطاب والكلام الديني، انما الغوص في عمق العقل الديني والقلب الفكري لتحقيق تغيير يخدم التعايش والتسامح بين الاديان السماوية. لذا، اردد بعد لقاءاتي العديدة ان مصر قبل زيارة البابا شيء، وبعد زيارته لها شيء آخر.
وما المقصود بهذا الكلام؟
- المقصود بذلك، انه على مصر قيادة الخطاب والعقل الديني وارساء مفاهيم قبول الآخر والعيش المشترك مكان الكراهية والتمييز. فقبول الآخر يعني قبوله اي كان هذا الآخر. انه الخطاب الذي نسمعه اليوم من الجميع، في ما خصّ العيش المشترك الذي هو اساس في قيام علاقات بين المصريين، لانه لا يمكن بناء عالم قائم على البغض والكراهية.
الى اي مدى تتلاقى مفاعيل زيارة البابا لمصر مع انفتاح الازهر الشريف والمؤتمرات التي يعقدها لتعزيز مفهوم المواطنة والتلاقي بين الاديان السماوية؟
- تتلاقى كثيرا، خصوصا وان الازهر الشريف يكثف من عقد مؤتمرات تهدف لتعزيز المواطنة، وفي احداها كان لمطران بيروت بولس مطر خطاب راق عن العيش المشترك وقبول الآخر ونبذ الكراهية، وتفهم جديد للاسلام الذي يقول ولو شاء ربك لكان خلق جميع الناس واحدا، ولكم ان تؤمنوا ولكم ان تكفروا وليس بكره الاخر. احدثت خطابات البابا صدمة قوية ولكن ايجابية، وتقبلها شيخ الازهر كما الرئيس المصري بحيث تلمس ان العقل الديني بدأ بالتغيير.

وضع حد للارهاب
كيف سيترجم هذا التغيير لدى الشعب في ظل وجود جماعات متطرفة تستهدف المسيحيين؟
- لا ننسى ان الارهاب ساد في عهد الرئىس السابق محمد مرسي، بحيث استُهدفت ٥٢ كنيسة عدا عن قتل الاقباط. لا يمكن اقتلاع الارهاب بيوم واحد. الا ان الرئىس السيسي وبابا الاقباط الارثوذكس وبطريرك الكاثوليك عازمون على وضع حد لكل هذا الارهاب البعيد عن مصر، بلد اللطف والرقة والشعب الطيب الذي لا يمكن جره لقتل الآخر.
بالعودة لهدف زيارتك الاعلامية لمصر، ما الخلاصة التي خرجت بها؟
- وجدت بعد زياراتي لمحطات التلفزة ومؤسسات اعلامية عديدة ان الخطاب والعقل والجو المصري عادوا الى ما كانوا عليه في اربعينات وخمسينات القرن الماضي، اي زمن الانفتاح والحوار واعادة بناء الانسان. هناك قراءة جديدة للبرامج التلفزيونية، وكذلك الامر بالنسبة للكتب المدرسية التي كان بعضها يعلم الكراهية، لكونها صادرة عن مؤسسات دينية اسلامية. هناك اليوم اعادة قراءة لهذه النصوص وتشديد على العلاقات بين المصريين على اختلافهم. وما يؤكد هذا الجو الجديد، مشاركة الرئيس السيسي المسيحيين الاقباط باعياد الميلاد واللقاءات بين شيخ الازهر الشريف ورؤساء الكنائس... فقد أسس لحوار يتطلب وقتاً للنضوج، يرافقه كلام واعلام هادف يتلاقى ومضمون زيارة بابا السلام لمصر السلام والتعايش والمحبة والهدوء. لقد خلقت زيارته جواً من المحبة والمغفرة، فيما اهالي الضحايا اكدوا انهم اهل المغفرة والمحبة، ويعيشون الانجيل.
هل سنكون، وفق ما شهدت عليه، امام تغيير في الخطاب الديني المصري؟
- نعم، لكن ذلك يحتاج لبعض الوقت، للخروج من المقولات القديمة لوجود تيارات متعددة، منها تكفيري. فقبل فترة، شتم احد المشايخ المسيحيين وكفّرهم، ما اضطر شيخ الازهر لطرده.
هناك عمل على تغيير هذه العقلية، والمطلوب هو قراءة جديدة للنص الديني المقدس، كما لطريقة شرحه. وهذا الامر من مسؤولية الازهر الذي يلعب دوراً مهماً في كيفية تغيير العقلية. وقد باشر بذلك، ولكن ربما يستغرق وقتاً. لكن الاكيد ان الربيع آت والايجابيات كبيرة، والضوء بدأ ينبلج.
    قرأ هذا المقال   3471 مرة
غلاف هذا العدد