إختر عدداً من الأرشيف  
فؤاد دعبول

التغيير حسنُ نيةٍ نحو التجديد
في نهاية العام ١٩٥٩، تجمَّع معظم معارضي الرئيس رشيد كرامي، الذي قطع دراسة الحقوق ليخوض الانتخابات النيابية بعد رحيل والده الزعيم عبد الحميد كرامي عن الحياة، في جبهة واحدة، رأت ان الظروف قد نضجت في مقاومة الوراثة السياسية في عاصمة الشمال. وجد الرئيس الشهيد رشيد كرامي امامه خصوماً اشدّاء واقوياء على الصعيد الشعبي، وهو بعد سياسي طرّي العود، لكنه صاحب طموح، وذو رؤية سياسية في فيحاء الشمال وهو اللقب الذي عرفت به العاصمة الثانية للبنان.
في ذلك الوقت، قرر الرئيس كرامي خوض المعركة مع رفاقه هاشم الحسيني، امين الحافظ، وفؤاد البرط. لكنه استدعى صديقه محمود الادهمي وسأله عمن يجب ان يتعاون معه في المعركة المقبلة، أي بعد اربع سنوات؟
بادره المفكر السياسي الكبير، بالسؤال الآتي: لماذا تفكر الان في معركة سيكون موعدها بعد اربع سنوات؟ وردّ بان المعارك تستدعي الاعداد لها قبل سنوات.
ونصحه الادهمي باسماء ليختار منها واحدا ومعه وقت طويل للتجربة وهم: المحامي سالم كباره، المحامي قبولي الزوق والسيد محمد حمزه والدكتور عبد المجيد الرافعي.
سأله الرئيس كرامي: من تفضّل انت من الاسماء التي اوردتها، فردّ بان محمد حمزة يريده الناس العاديون، وان الاخرين من نصائح العناصر المثقفة في المدينة.
في العام ١٩٦٤، كان محمد حمزة على لائحة رشيد كرامي، وادرجت الاسماء الاخرى، في ضمائر القوى الطرابلسية.

كان رشيد كرامي يدرس ظروف المعارك الانتخابية، ولا يحب التغيير في الوجوه ايماناً منه بان السياسي الحاذق هو من يختار رفاقه في المعركة من دون سرعة او تسرع.
في العام ١٩٦٨ برز في عاصمة الشمال طبيب بارع وخدوم، فوجد كرامي ان التقرّب منه مفيد اكثر من الابتعاد عنه. وقبل حلول موعد الانتخابات طلب منه الرئيس كرامي الاستعداد لمعركة الانتخابات البلدية، فترشح وفاز باكثرية ساحقة في العام ١٩٦٣، لكنه لم يعده برئاسة المجلس البلدي. بعد الانتخابات ذهب البيسار الى البيت الكرامي وطلب من الزعيم الطرابلسي تأييده، لكن هذا الاخير فاجأه بانه وعد بالرئاسة السيد عبد الحميد عويضه.
ووقع الخلاف بين الرجلين، وحل الخصام مكان الصداقة. في العام ١٩٦٨ ايضا وقعت المعركة الانتخابية في ظروف صعبة اضطر معها كرامي الى خوض الانتخابات بوجوه معروفة لديه، لكن حدة المواجهة وقعت ضد المرشح الارثوذكسي على لائحته فؤاد البرط، بعد بروز مرشح جديد هو السيد الفرد حبيب، لكن كرامي رتّب انسحابه بتعاون مع الوجه الارثوذكسي حبيب فاضل والد النائب الراحل موريس فاضل، وحصل البرط على تزكية غير متوقعة في معركة شديدة وحارة.
وفي العام ١٩٧٢، فاز الرئيس سليمان فرنجيه برئاسة الجمهورية، وكان مقيما في طرابلس، منذ عدة سنوات، وسارع معارضو الرئيس كرامي الى الترشح ضده، اعتقادا منهم ان الزعيمين الشماليين سيتواجهان في معركة العاصمة الشمالية، الا ان معظمهم او بعضهم قام بزيارة نجل الرئيس الجديد، لسبر اغوار عواطفه تجاه الزعيم الطرابلسي الشهير بتحالفه مع لحلف الشهابي، لكن هذا الاخير كان واضحا وصريحا بان والده لن يسمح للسلطة بالتدخل في انتخابات طرابلس.
الا ان رشيد كرامي كان يعرف ظروف المعركة، فقد أدرك انه لا يستطيع التفوق على زعيم أساسي من طرابلس هو الدكتور عبد المجيد الرافعي، فعمد فوراً الى التغيير في شكل تأليف قائمته واستطاع بمبادرة من رئيس بلدية طرابلس السيد عشير الداية، اختيار مرشح جديد من ميناء طرابلس هو السيد عبد الغني عبد الوهاب، والتعاون مع الأرثوذكسي القوي موريس حبيب فاضل، لكن النتائج جاءت مغايرة للآمال، اذا سقط عبد الوهاب، وفاز عبد المجيد الرافعي بأعلى رقم من الأصوات اذ نال ١٧٥١٧ صوتاً مقابل ١٦٩٧٤ للرئيس رشيد كرامي.
وهذا ما يفعله الآن زعيم الطائفة الإسلامية السنيّة في لبنان سعد الحريري، وقائد المعركة في طائفته، بعد اعلان النتائج النهائية للإنتخابات النيابية في لبنان قبل أسبوعين.
ويقول المراقبون الآن، ان ظروف المعركة الإنتخابية قد تبدلت لكنها تتشابه كثيراً جداً في التفاصيل والأسباب.
ويقولون ان من حق الفائزين في الإنتخابات والخاسرين فيها، أن يعمدوا بعد كل معركة الى تقويم نتائجها وتحليل ظروفها السياسية والإجتماعية.
وهذا ما حصل في المعركة الأخيرة، قبل اجراء الإنتخابات وفي أثنائها وبعدها، لأن حلول الأبناء والأنجال محل الآباء، هو من طبائع المعركة الجديدة، ولأن وجوهاً بارزة قد غابت عن البرلمان، وان وجوهاً جديدة قد ظهرت.
وهذا ليس مجرد مفاجأة، بعد التغييرات التي حصلت، لأن تكرار الوجوه نفسها بعد تسع سنوات من التمديدات والترشيحات لا بد من أن تفرز واقعاً جديداً في البلاد، وهي على أبواب حقبة جديدة في السياسة والعادات والأساليب.
ويقول العماد ميشال عون والرئيس نبيه بري والرئيس سعد الحريري، ان زعماء الوطن لا يمكن أن يمر عليهم الطابع الجديد للنظام من دون مظلة واقية لهم من ضربة شمس، خصوصاً وان الرئيس سعد الحريري رفع شعار الخرزة الزرقاء لرد العَيْن عن المعركة، الحاصلة في البلاد.
وفي رأي سعد الحريري ان مبادرته الى استقالة من قصَّر في الإنتخابات أو من عجز عن تحقيق التغيير ضرورية، لأنه يجب أن يحاسب، والمحاسبة ليست قصاصاً بل هي بداية تجديد في الأساليب السياسية القائمة.
كان النائب الراحل كاظم الخليل، يقول بصورة مستمرة للرئيس كميل شمعون، عندما كان نائباً له في رئاسة حزب الوطنيين الأحرار، ان تجاهل المحاسبة هو التقصير ذاته في الأساليب والأنماط السياسية.
وعندما كان الرئيس حسين الحسيني في رئاسة المجلس النيابي، قام بزيارة روما وباريس في اسبوع واحد. وقال له البطريرك صفير، بعد مغادرته الفاتيكان ان قداسة الحبر الأعظم، يؤمن بأن الحوار بين الأضداد هو الطريق الى ولادة الآراء الصائبة لا المتخلفة.
وعندما انتقل الحسيني من روما الى باريس بادره الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران بان الجمود قاتل للحياة، وما التغيير الا بادرة حسن نية نحو التجديد.
    قرأ هذا المقال   666 مرة
غلاف هذا العدد