إختر عدداً من الأرشيف  
جعبة سعيد فريحة

هَلْ أجنّ؟
منذ اسابيع والرفيق العزيز سامي غميقة يلاحقني بهذا السؤال:
- ما رأيك في ان اكتب تحقيقاً صحافياً عن مستشفى المجانين؟
وفي كل مرة كنت اشكر سامي على بوادر نشاطه الصحافي واطلب منه ان يبحث عن موضوع آخر.
ويبحث، ثم يعود الى السؤال:
- ما رأيك في ان اكتب تحقيقاً عن المجانين؟
وقلت له اخيراً:
- ارجو ان تقتنع معي ان الكتابة عن هؤلاء التعساء لا يمكن ان ترضي احداً.
وقال سامي:
- حتى لو راعيت فيها الجانب الانساني؟
قلت: انك اذا فعلت جاء الموضوع قاتماً حزيناً، واذا لم تفعل اتهمنا القراء بانعدام الرحمة والذوق، فما رأيك؟
قال: رأيي ان اكتب تحقيقاً عن المجانين...
وهنا انفجرت قائلا:

- اكتب عن المجانين، اكتب عن الشياطين... ولكن لا تنسَ ان تكتب عني غداً او بعد غد لانني سأجن حتماً.
فضحك الرفيق العزيز وقال:
- لا سمح الله...
قالها وانصرف، ولو بقي لسمعني اردد او اترشق كالمجانين:
- هل يعقل الا يسمح الله وانت هنا، والرسام خليل الاشقر هنا، وعشرات الرفاق هناك وغير هنا... اي ان بعضهم يأتي ليسأل، وبعضهم لا يأتي ولا يسأل، بل يتركني حائراً معذباً اتساءل: الى متى اظل مسؤولاً في هذه المهنة؟ الى متى اظل اعمل ليلاً ونهاراً في التحرير، وفي الرد عن اسئلة الاخوان المحررين، وفي تلبية طلبات العمال والموظفين، ورغبات الزائرين، واوامر ام البنين؟
الى متى اظل قاعداً في مكتبي لا استريح، وفي بيتي لا اسافر، وفي بلدي لا اجد فاعلة خير تقوم بدور الملهمة؟
ان العمل واجب والمسؤولية مقدسة. ولكن الى متى والى اي حد؟
انني ما زلت اعمل منذ عهد الطفولة، وما زلت اعمل وانا في حدود الستين، بل ان عملي في هذه السن هو اضعاف ما كان عليه في سن الفتوة والشباب. ولو انه عمل فقط لهان الامر. ولكنه عمل ونرفزة، عمل ونكرزة، عمل ووجع اضراس، ومغص في المعدة، وبرودة في الاطراف، وبطالة في الخافق المعذب...
ويأتي بعد هذا الرفيق سامي غميقة ويقول لا سمح الله ان اجن!!
وكيف لا اجن وكل شيء في هذه الايام يهددني بالجنون، وبالانتقال القريب الى الجوار الرهيب؟
وقد تعلم او لا تعلم يا عزيزي القارىء، ان دار الصياد تقع بين جوارين رهيبين، احدهما قبور باشاوات الاتراك، والثاني مستشفى العصفورية.
وهذا الجوار الاخير هو الذي اصبحت اخشاه واخشى ان ينتهي مصيري اليه في اية لحظة من لحظات العمل الذي هو واجب... والمسؤولية التي هي مقدسة!

يتبع
    قرأ هذا المقال   617 مرة
غلاف هذا العدد