إختر عدداً من الأرشيف  
اقتصاد

التاريخ المضطرب لليرة اللبنانية
يستدل من جدول تاريخي لسعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار الاميركي، ان العملة اللبنانية لم تكن يوما مرتبطة بوقائع الاقتصاد المحلي بقدر ارتباطها بتطورات الوضع الاقليمي والدولي. ويعود ذلك الى كون الاقتصاد اللبناني حرا حيث حرية الاستيراد والتصدير، باستثناء سنوات الحرب العالمية الثانية حيث انخفض الاستهلاك بحدة ليقتصر فقط على المواد الغذائية والكساء.
كانت العملة اللبنانية قوية من حيث قدرتها الشرائية ومن جهة سعر تعادلها مع الدولار في العام ١٩٣٧ وبلغت نحو ١،٢٦ ليرة ليرة واحدة و٢٦ قرشا للدولار الاميركي كان الدولار يتمتع بقدرة شرائية تبلغ بمقاييس اليوم نحو ٢٥ الف ليرة طبقا لتقدير خبير في العملات. اي ان قدرة الليرة الشرائية كانت في ذلك الزمن الغابر نحو ٢٠ الف ليرة على اقل تقدير، وربما كانت اكثر.
بسبب احتلال ادولف هتلر مستشار المانيا وزعيم الحزب النازي لاجزاء من تشيكوسلوفاكيا في ١٩٣٨ هبطت الليرة اللبنانية ٣٨% واصبح سعر الدولار في سوق بيروت ١،٧٥ ليرة بدلا من ١،٢٦ ليرة. لكن الخبراء يعزون جزءا من هذا الهبوط او كله الى ارتباط الليرة اللبنانية بالفرنك الفرنسي الذي كان يعاني في ذلك الزمن من التضخم ومن بوادر الحرب العالمية الثانية.
في ١٩٣٩ واصلت الليرة اللبنانية هبوطها تجاه الدولار وبلغت ١،٩٩ ليرة لكل دولار محققة تراجعا بلغ ١٣،٧% ويعود ذلك الى نذر الحرب العالمية الثانية التي اصبحت في ذلك العام واقعا بعد ان كانت مجرد تكهنات. في ١٩٤٠ اندلعت الحرب العالمية الثانية فهبطت الليرة تجاه الدولار وبلغت ٢،٢٠ ليرتين لكل دولار. وبقيت

على هذا المنوال خمس سنوات، وما ساعد على تثبيتها انخفاض المستوردات الى درجة اضطرت السلطات اللبنانية الى توزيع الاعاشة على طالبيها من المواطنين.
وتراجعت الليرة قليلا في آخر سنوات الحرب ١٩٤٥ حينما استسلمت المانيا واليابان، وردت الحياة الى التجارة الخارجية اللبنانية التي بدأت تتحرك فسجلت سعرا بلغ ٢،٢٢ ليرتين للدولار الواحد بسبب الطلب على العملات الاجنبية بهدف الاستيراد.
وللسبب نفسه عادت الليرة الى الترنح في العام ١٩٤٦ فتراجعت تجاه الدولار الاميركي ٥٠%. الا ان خبراء يعزون ذلك الى قوة الدولار في الاسواق العالمية من جهة على الرغم من تباطؤ الاقتصاد الاميركي والى ضعف الفرنك الفرنسي الذي ترتبط به الليرة اضافة الى الطلب المحلي المتزايد على الدولار لتغطية الاستيراد.
ولا بد من الملاحظة ان العملة الصعبة الرئيسية التي كان يتعامل بها لبنان مع العالم كانت الفرنك الفرنسي والجنيه الاسترليني. وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية اتجه لبنان الى استخدام الدولار الاميركي في معاملاته الخارجية لاغيا الفرنك الفرنسي كعملة صعبة ومخففا من استخدام الجنيه الاسترليني.
في نهاية الاربعينات اعلن لبنان انه فك الترابط بين الليرة والفرنك. وجاءت هذه الخطوة عندما ادت حرب فلسطين في ١٩٤٨ الى بلوغ الليرة رقما قياسيا بالتدني هو ٣،٥٥ ليرات، لكن الاموال الفلسطينية المهاجرة من بلدها الى لبنان سببت بعض الاستقرار النسبي للعملة اللبنانية. وعاد الاضطراب الى سعر الليرة اللبنانية تجاه الدولار في ١٩٥١ عندما اغتيل رئيس وزراء لبنان رياض الصلح فبلغت دركا جديدا تجاه الدولار الذي بلغ في ذلك الوقت ٣،٧٧ ليرات مقابل ٣،٤٤ ليرات في العام ١٩٥٠.
وحصل ما لم يكن في الحسبان حينما نشبت ثورة ٢٣ تموز/يوليو في مصر عام ١٩٥٢ فشهد لبنان تدفقات للاموال المصرية الهاربة. وانعكس ذلك في تحسن سعر تعامل الليرة والدولار لمصلحة العملة اللبنانية التي سجلت في هذه السنة ٣،٦٥ ليرات للدولار. ثم انطلق التحسن كالصاروخ حينما انتخب الرئيس كميل شمعون رئىسا للجمهورية، والسبب ان الناس والمستثمرين كانوا على ثقة عمياء بالرئيس شمعون وبقدرته على ادارة الاقتصاد ادارة جيدة، وهذا ما حدث فعلا. لكن ما خدم عهد الرئيس شمعون هو بدء تدفق المال النفطي على لبنان للاستثمار به خصوصا في البناء.
شهد سعر صرف الليرة استقرارا في عهد الرئىس كميل شمعون ١٩٥٢ - ١٩٥٨، كذلك شهدت البلاد بعد طول معاناة معدلات تضخم اقل بكثير من معدلات التضخم في مرحلة ١٩٣٧ - ١٩٥٢. ونتيجة لتدفق الاموال حققت البنوك اللبنانية قفزة نوعية في طريقة عملها واستراتيجيات التوظيف. ونشأت عشرات البنوك الجديدة اهمها بنك انترا.
وبرغم نشوب ثورة ١٩٥٨ لم تتزحزح الليرة اللبنانية عن موقعها. وفي هذه السنة انتخب الرئىس فؤاد شهاب رئىسا للجمهورية ١٩٥٨ - ١٩٦٤ فازدادت الثقة بالاوضاع اللبنانية وخصوصا الليرة اللبنانية.
وفي سنة ١٩٦٧، خلال عهد الرئيس شارل حلو ١٩٦٤ - ١٩٧٠، تراجعت الليرة قليلا بفعل حرب حزيران/يونيو. وفي سنة ١٩٦٩ ضعفت الليرة قليلا بسبب الاشتباكات بين الجيش اللبناني والفلسطينيين. واستأنفت الليرة ضعفها عندما توفي الرئيس جمال عبد الناصر في ايلول/سبتمبر ١٩٧٠.
في سنة ١٩٧٤ حدث ما لم يكن في حسبان حاكم مصرف لبنان الياس سركيس، فقد ضعف الدولار هذه المرة تجاه الليرة اللبنانية، وبلغت ذروة ضعفه عندما بلغ ٢،٢٨ ليرتين بعدما كان استقر طوال ٢٢ عاما على سعر يتراوح بين ٣.١٥ و٣.٢٥ ليرات للدولار الواحد.
قوة الليرة لم تستمر طويلا ففي ١٩٧٥ اندلعت الحرب الاهلية، واندلع معها التضخم بأبشع صوره. وظلت الليرة في تراجع مستمر حتى بلغت في ١٩٨١ نحو ٤،٦٢ ليرات لكل دولار، وعادت العملة اللبنانية الى زهوها حينما ظن اللبنانيون بعد الاجتياح الاسرائيلي ان الحرب الاهلية انتهت لكن سرعان ما ادركوا انها دخلت طوراً جديداً نتيجة لكون لبنان مسرحاً للنزاع بين الدولتين الكبيرتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
في ١٩٨٣ جف المال الفلسطيني في لبنان وتوقف تدفق الأموال العربية الفائضة عليه بسبب جفاف منابعها وتهاوي اسعار البترول. واتخذ مجلس النواب قراراً لا يمكن وصفه بالذكاء قضى بتجميد استخدام الذهب في دعم العملة الوطنية. وكانت النتيجة ان العملة اللبنانية تهاوت وساد الفقر البلاد، ولا يزال محظراً حتى الساعة على البنك المركزي استخدام احتياطيات الذهب لدعم الليرة. وقيل في ذلك الوقت ان الذهب سيستخدم لاعادة اعمار لبنان. لكن اعيد اعمار لبنان في التسعينات من دون ان يسمح ببيع اونصة واحدة. ثم جاءوا ببدعة اذكى حينما قالوا ان الليرة ستهبط في حال بيع الذهب، وهبطت الليرة في مرحلة ١٩٨٣ - ١٩٩٢ نحو ٣٩٧ ضعفاً من ٣.٨١ ليرات في ١٩٨٢ الى ١٥٠٨ في التسعينات ولم يستعن بالذهب بعد. والسؤال: ما هي وظيفة الذهب في العقل السياسي اللبناني؟ خصوصاً ان المعدن الأصفر لم يعد يشكل سوى ربع الاحتياطي العام للدولة.
مرحلة ١٩٨٢ - ١٩٩٢ هي الأحلك في تاريخ العملة اللبنانية خصوصاً حينما تولى الحاكمية شخص محترم في الفقه القانوني هو الدكتور ادمون نعيم، لكنه كان يفتقد الى ابسط مبادىء علم النقد، ومع ذلك، فان طهارة الرجل وامانته خدمت الليرة اللبنانية.
وبتولي الرئيس رفيق الحريري رئاسة الوزراء تغير التاريخ الحديث للعملة اللبنانية. وكان الحريري حريصاً على تعيين رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان لأنه يعرف كل شاردة وواردة في ادوات دعم العملة. ومنذ ١٩٩٢ وحتى يومنا هذا ينعم النقد اللبناني بالاستقرار برغم وجود الثغرات اهمها عجز الموازنة اللبنانية.
    قرأ هذا المقال   11706 مرة
غلاف هذا العدد