إختر عدداً من الأرشيف  
تحقيقات

متحف الذاكرة والتاريخ يغرق في الوحول
تعرض المتحف الوطني في بيروت، فجر الأول من تشرين الأول الجاري، لاضرار جراء مياه الامطار التي طالت المستودع والمختبر وبعض القطع الاثرية، حيث يرجح ان يكون السبب انسداد مجاري تصريف المياه في الطرق نظرا لأعمال البنى التحتية التي تجري حاليا على امتداد طريق الشام ومحيطها. وبحسب معلومات المديرية العامة للآثار، فقد ادى تسرب المياه الى اتلاف بعض الملفات وتضرر قطع اثرية، فيما يعمل المعنيون على انقاذ ما يمكن انقاذه وتقييم الاضرار. وأكد وزير الثقافة غابي ليون أن تحقيقاً فتح لتحديد من هو المسؤول عن تعريض كنوز لبنان للخطر، وتحميله تبعات ذلك بشكل كامل.
ويضم المتحف الوطني مجموعة قطع أثرية غنية جداً ابرزها ناووس احيرام وهو اقدم اثر ابجدي في التاريخ. كما يضم المتحف نواويس ، فسيفساء، مجوهرات، قطع نقدية، سيراميك، أسلحة تعود إلى فترة ما قبل التاريخ، والعصور: البرونزي، الحديدي، والهلنستي، الروماني، والبيزنطي، وفترة الفتح العربي حتى العصر المملوكي. وفي المتحف ثلاثة طوابق ، وقاعة للمرئي والمسموع ومتجر.

التأسيس والافتتاح
بدأت أول نواة لتكوين متحف يجمع الأثار في لبنان على يد ضابط فرنسي يدعى ريمون ويل، بعدما قام بجمع بعض القطع الأثرية، التي وضعت في قاعة من قاعات دار الراهبات الألمانيات في شارع بيكو ببيروت، وقد اتخذت هذه القاعة صفة المتحف المؤقت.
تم البدء في إنشاء المتحف عام 1930 واستمر إنشاؤه 7 سنوات وأفتتحه بشكل رسمي للجمهور الرئيس اللبناني ألفرد جورج النقاش في 27 مايو 1942.
ولعل أجمل ما يميز هذا المتحف، هو هذا التزاوج بين العراقة والحداثة، لا سيما في المبنى التراثي الذي جلبت أحجاره البيضاء من مقالع الاردن الصخرية أو في الترتيب الداخلي، وفق أحدث النظريات العالمية للمتاحف. وهذا التزاوج يحضن عصورا وحضارات متلاحقة كفيلة برسم صورة لبنان بتاريخه وجغرافيته وطبيعته وحياة أبنائه، إضافة الى حضارات الشعوب التي وفدت اليه على امتداد الزمن. فلا يمكن لأي

سائح يسعى الى التعرّف على لبنان عن كثب، الا أن يزور المكان الذي يشكّل خريطة كاملة لقراءة تاريخ هذا البلد من خلال كنوزه الأثرية التي يزيد عددها، يوما بعد يوم، بفعل أعمال التنقيب المستمرة.

اسطورة اوروب
ولا بد لأي زائر من التوقف امام جدارية من الفسيفساء تمثل اسطورة اختطاف الاميرة اوروب على متن ثور، أبحر بها إلى الجهة المقابلة من حوض المتوسط لتعطي اسمها للقارة الاوروبية.
هذه الجدارية، التي يعود تاريخها الى القرن الثالث الميلادي، تم اكتشافها في جبيل ونقلت الى المتحف الوطني. إلى جانبها يستكين تمثال رخامي لمعبد اله الطب أشمون، الذي اكتشف في بستان الشيخ قرب صيدا بوابة الجنوب اللبناني في العصر الهلنستي. هذه الجدارية تحتل جانبا في الطبقة الاولى من مبنى المتحف المؤلف من ثلاث طبقات منفصلة، خصّصت كل منها لأنواع محددة من التحف والآثار.

فسيفساء الحسد
وفي زاوية اخرى، ترتكز فسيفساء الحسد التي تعود الى العصر البيزنطي بحكمتها التي تقول: الحسد شر كبير، انما حسنته أنه يضني عيون الحساد وقلوبهم.
وعلى عكس الطبقة الأولى، التي تضمّ آثارا كبيرة الحجم، زيّنت الطبقة الثانية بموجودات صغيرة ومعظمها من الفخاريات والزجاجيات والحلى النادرة من بين اقدم الآثار التي تعود الى العصر البرونزي والحديدي.
وهناك بعض التماثيل الصغيرة التي تم اكتشافها في منطقة كامد اللوز في البقاع من العصر البرونزي وأخرى لحيوانات صغيرة عاجية كانت تقدّم قرابين في المعابد والهياكل، كذلك فالتماثيل الطينية تعود الى الحقبة الهلنستية بين 333 ق. م، و64 م. وهناك مجموعة من الحلي اكتشفت في صيدا، وهي عبارة عن عقود من العقيق الأحمر من العصر البرونزي وكنوز ذهبية بيزنطية، عبارة عن خواتم وأساور ذات نقوش لرؤوس حيوانات ومجموعة حلي نادرة تعود الى العصر المملوكي ومجموعة أخرى من القلادات والأقراط التي استخرجت من تراب وسط بيروت في العام 1977.

الحضارة الجبيلية
ولعل مدينة جبيل أو بيبلوس القديمة من أبرز المدن الفينيقية التي أغنت المتحف بآثارها المستخرجة من قبور الملوك الغنية بالدروع والخناجر والأكاليل المرصعة بالذهب. ولمن يهوى اكتشاف التاريخ فإن إدارة المتحف قدّمت له هذه الفرصة من خلال المعلومات الموزعة على جدران المتحف، كتلك التي تعرّف باكتشاف الزجاج وتجارته وانتشاره تحت عنوان الزجاج في القدم، مع قول ل بترون لتريملكيون: أنا أفضّل الزجاج، اذ ليس له رائحة، ولو لم يكن قابلا للكسر لكنت فضّلته على الذهب، مع تعريف مفصّل عن صناعته.

العصر الاسلامي
وفي الطبقة السفلى حديثة العهد توجد القاعة الخاصة بالآثار التي تعود الى العصر الاسلامي، وتوزّعت فيها ثمانية أنواع من التحف التي اكتشفت حديثا وأهمها الغلايين على اختلاف أشكالها، ويرافق هذه الآثار تعريف عن الغليون، الذي هو عبارة عن اناء صغير ومقبض قصير يمثل نموذج الغليون الشعبي في المناطق العثمانية، ومن الممكن أن يكون قد وصل الى لبنان حوالي عام 1625، ولم تبدأ صناعته في المحترفات المحلية في بيروت وصيدا وصور الا خلال القرن ال 18.
كذلك لفناجين القهوة حصة لا يستهان منها من الموجودات الاسلامية، وقد وضعت في خزانة زجاجية مع معلومات تقول إن هذا النوع من الفناجين أنتج في تركيا. أما القهوة فقد انتشرت عبر المقاطعات العثمانية منذ بداية القرن 16 وبشكل خاص في مكة والقاهرة. وعرفت أوروبا شرب القهوة حوالي نهاية القرن 16 وانتشرت عادة استهلاكها خلال القرنين 17 و 18. وكان اليمن لغاية تلك الفترة المنتج والمزوّد الرئيسي لحبوب البن انطلاقا من ميناء الموخة الموجودة على البحر الأحمر ومنها اشتقت كلمة موكا.

انسان.. انطلياس
بحسب بعض المصادر فان المتحف الوطني اللبناني مني بخسارة كبرى خلال الحرب الاهلية اذ سرقت منه جمجمة انسان قديم يعرف بانسان انطلياس وهي جمجمة طفل تعود الى ٣٥ الف عام عثر عليها في كسارات عقيل في انطلياس ونقلت الى المتحف ثم اختفت آثارها. وتعتبر هذه الجمجمة ذات قيمة علمية كبرى. وقد ادى العمل المنتظم في كسارات انطلياس الى تدمير المغاور والكهوف التي سكنها الانسان القديم واختفت معالمها باستثناء بعض الحجارة الصوانية التي جعلها الانسان القديم ادوات صيده وحمايته.

ناووس احيرام
يعود ناووس احيرام ملك جبيل الى القرن الثالث عشر قبل الميلاد ويحظى بشهرة عريضة لانه يحمل اقدم نص ابجدي في التاريخ، كما يعتبر وثيقة تاريخية نادرة تؤكد ان لبنان مهد الابجدية وتشير الى اقدم استخدام ل الابجدية الفينيقية التي تعتبر اول ابجدية في العالم اعتمدت على مخارج الحروف بدلا من الكتابة التصويرية مثل الهيروغليفية والمسمارية.
كما تؤكد نقوش ناووس احيرام ان الابجدية الفينيقية بحروفها الاثنين وعشرين التي استخدمت في مدينة جبيل او بيبلوس في القرن العاشر قبل الميلاد هي الابجدية التي انتشرت وتبناها الاغريق في القرن الثامن وادخلوا اليها التعديلات اللازمة لتدوين لغتهم.
يذكر ان الفينيقيين هم مجموعة سامية الاصول من قبائل الكنعانيين الذين سكنوا سواحل البحر الابيض المتوسط منذ اكثر من ٤٠٠٠ سنة قبل الميلاد وسيطروا في فترات محددة على معظم جزر المتوسط وسموا بالفوينيكوس التي تعني البنفسجيين وذلك بسبب لون ملابسهم واقمشتهم الارجوانية والتي اشتهروا بصباغتها من اصداف الموركس البحرية.
واحيرام هو احد ملوك مدينة جبيل وظهر اسمه للمرة الاولى بعد اكتشاف ناووسه المصنوع من الحجر الرملي عالم الاثار الفرنسي بيير مونته عام ١٩٢٣ في مقبرة جبيل الملكية.
وقد نقشت على غطاء ناووس احيرام وجرنه كتابة فينيقية ابجدية مقروءة لا تزيد على الستة اسطر هي اقدم الحروف المستنبطة آنذاك وتتضمن ترجمتها ما يلي هذا الناووس صنعه ايتوبعل بن احيرام ملك جبيل، لابيه احيرام، حين وضعه في بيت الابدية، لكن اذا زحف على جبيل ملك من الملوك او حاكم من الحكام او قائد جيش وفتح هذا الناووس، فليتحطم صولجان سلطانه ولينقلب عرش ملكه وليدب في فوهة الجحيم وليزول السلام عن جبيل.
وتحمل الناووس اربعة اسود رابضة اما الرسوم النافرة على الجانبين العريضين للناووس فتشير الى ملك جالس على عرشه يتناول وجبة طقسية ويحمل كأسا وزهرة اللوتس وقد تدلت الى الاسفل للدلالة على ان حاملها ميت، وامامه يصطف بعض حاشيته يقدمون له شعائر التكريم.
اما على الجانبين الصغيرين للناووس فيبدو رتل من الباكيات الناحبات والعابدات وبعضهن يمزقن ثيابهن علامة الحزن.

الدمار والإغلاق
اندلعت الحرب في لبنان عام 1975، وكان المتحف يقع في ما عرف بعد ذلك ب خط التماس... وكانت أول ردة فعل من المسؤولين عن المتحف هي إغلاقه أمام الجمهور لحين عودة الهدوء والاستقرار، ولكن مع مرور الوقت بدأ المتحف يتعرض للقذائف واضطر المسؤولون إلى اتخاذ تدابير واقية لحماية المعروضات الأثرية، ففي البداية تم تخزين القطع الصغيرة الموجودة بالطابق الأول والأكثر عرضة للتدمير في الطابق السفلي وأحيطت بجدران مسلحة لحمايتها. كما غطيت الفسيفساء الموجودة بالطابق السفلي بطبقة من الاسمنت. أما القطع الحجرية الكبيرة التي لم يكن من الممكن نقلها فوضع حولها في البداية أكياس رملية ثم أحيطت بقالب خشبي وصب حوله بالخرسانة المسلحة. ونقل القسم الآخر منها إلى إحدى طبقات مصرف لبنان المحصنة بجدران سميكة، وتمت حماية قطع الفسيفساء بعازل سميك من أوراق بلاستيكية مغلفة بالاسمنت. ولكن كل هذه الاحتياطات لم تجد نفعا امام القذائف التي قضت على مجموعة كبيرة من المحتويات، لا سيما مكتبة المتحف المكونة من 17 الف مجلّد.
عند نهاية الحرب عام 1991، كان المتحف قد أصيب بدمار هائل وكانت المياه تتسرب اليه من الشقوق والشبابيك المفتوحة العارية وامتدت الثغرات والفجوات في واجهة المتحف نتيجة للقذائف التي سقطت عليه.
أما مستودعات القطع الأثرية فقد ظلت مغلقة مدة 15 سنة في شروط حفظ غير صالحة كما لم يكن للقطع الكبيرة الموضوعة في الصناديق الخشبية تهوية مناسبة كما تكونت طبقة من الملح على قاعدتها نتيجة لارتفاع المياه الجوفية المالحة وتسربت المياه للمستودعات كما شب حريق نتيجة لقصف الجناح الملاصق لمبنى المتحف الرئيسي فأتى على قسم كبير من المستندات والصور والخرائط وأتلف 45 صندوقا تحتوى على قطع أثرية كما دمرت المعدات المخبرية.



تجربة متحفي بغداد والقاهرة مع ظاهرة النهب والتخريب
بقي متحف بغداد، صامداً لم يتعرض لأي ضرر يُذكر حتى سنة 2003، رغم أن العراق خاض عمار حربي الخليج الأولى ضد إيران بين 1980 و1988، والخليج الثانية في الكويت بين 1990 و1991. وكانت الحادثة الوحيدة عملية سرقة محدودة لبعض التحف حصلت سنة 1999، ما يعني أن النظام العراقي السابق قد نجح إلى حد ما في حماية المتحف رغم الظروف الضاغطة الكثيرة التي كانت تواجهه.
وقد تبدلت الأمور مع دخول القوات الأميركية بغداد سنة 2003، حيث شددت هذه القوات حماية وزارة النفط العراقية، وأهملت كلياً حماية المتحف. ويقول الدكتور دوني جورج الرئيس السابق للهيئة العامة للآثار والتراث في العراق بأنه كانت ثمة مؤامرة غربية ضد المتحف العراقي منذ ما قبل الحرب، حيث ذكر ان القصة بدأت قبل عام كامل من الغزو، إذ أوضح الدكتور جورج أن ما حدث كان متوقعاً وتم اتخاذ إجراءات عراقية عديدة من حكومة ما قبل الحرب للتخفيف من آثاره لكن تقاعساً في حماية المتحف من الجيش الأميركي سهل هذه السرقات.
قبل عام مما حصل في المتحف وفي تاريخ 10 نيسان 2002 تماماً، وصلتني معلومة من إحدى الزميلات في جامعة كامبردج عن حديث جرى في جلسة متخصصين بالآثار، حيث قال أحدهم أن العراقيين لا يستحقون ما لديهم من آثار ولا يعرفون كيف يتعاملون معها لذلك يجب أن نشجع السارقين أن يسرقوها ويخرجوها خارج العراق... وقال آخر في ذات الجلسة أنه ينتظر اليوم الذي ستدخل فيه القوات الأميركية الى بغداد ليكون معها ويأخذ ما يريد من المتحف العراقي...
في يوم 10 نيسان 2003 شاهد أحد الموظفين الساكنين في مجمع المتحف، مجموعة من 400 شخص مسلحين بمختلف أنواع الأسلحة ينوون دخول المتحف، فذهب نحو دبابة أميركية تبعد 70 متراً عن مدخل المتحف وتوسل اليهم كي يقوموا بحماية المتحف، لكن آمر الدبابة، وبعد اتصال أجراه مع رؤسائه، قال لا أمر لدينا لحماية المتحف.
ويصعب تقدير العدد الدقيق للمسروقات في متحف بغداد، حيث يقدر هذا العدد بآلاف أو حتى عشرات ألاف القطع المنهوبة، ولم يتمكن القيمون الحاليون على المتحف من استعادة أكثر من بضع مئات من هذه القطع...

وبالنسبة إلى متحف القاهرة، فإنه يقع بمحاذاة جادة كانت قد تحولت إلى خط مواجهة بين المتظاهرين المعارضين لمبارك والآخرين المؤيدين له، الذين كانوا يتواجهون بشكل متقطع فيتراشقون بالحجارة، ما عرض المتحف للخطر البالغ، على أن القوات المسلحة المصرية اتخذت إجراءات مشددة لحمايته.
فالجيش كان قد نشر قوات عسكرية ضخمة في محيط المبنى الحجري الشهير، الزهري اللون، الخاص بالمتحف بعد تمكن متسللين أواخر كانون الثاني/يناير من دخول قاعاته بحثا عن الذهب، حيث حطموا عددا من واجهات العرض فيه والحقوا أضرارا بسبعين من تحفه.
ووقف جنود بلباس القتال يعتمرون الخوذات ويرتدون سترات واقية من الرصاص ويحملون رشاشات كلاشنيكوف، خلف سياج المتحف على مسافة عشرين مترا الواحد عن الأخر، والى جانبهم ينتشر رجال إطفاء بخوذاتهم الصفراء، فيما ترابط مدرعات موزعة ما بين الباحة والساحة. على أن كل ذلك لم يمنع بعض المتظاهرين من دخول المتحف، حيث تم تحطيم موميائيتين، وعدد من التحف قدرت بالعشرات. كما تمت سرقة بعض التحف من متحف القاهرة وعدد من المتاحف المصرية الأخرى. ويمكن القول بأن عدد السرقات والأضرار بقي محدوداً إلى حد بعيد، بفضل الإجراءات السريعة التي تم اتخاذها لحماية المتحف ومحتوياته من جانب القوات الأمنية المصرية، على عكس ما كان حصل في بغداد، مع الإشارة إلى أنه تمت استعادة العديد من المسروقات، ولعل السبب في ذلك هو أن مصريين هم الذين تولوا حراسة المتحف الذي يأوي بعض كنوز التراث المصري في القاهرة، في حين لم يكن هناك ثمة وجود لقوات أمنية عراقية في بغداد، وكانت مسؤولية الأمن على عاتق قوات أجنبية محتلة...
    قرأ هذا المقال   1829 مرة
غلاف هذا العدد